الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: العقد الفريد **
قال الأصمعيّ: ما بلغتُ الحلُم حتى رويتً اثني عشر ألفَ أرجوزةٍ للأعراب. وكان خَلف الأحمر أَروى الناس للشِّعر وأعلَمهم بجيّده. قال مَروان بن أبي حَفْصة: لما مدحْتُ المهديَّ بشعري الذي أولًه: طرقْتك زائرةً فحيِّ خَيالَهَا بيضاءُ تَخْلِط بالحَياء دَلالَها أردتُ أنْ أَعرضه على بُصراء البَصرة فدخلتُ المسجد الجامع فتصفَحت الحَلَق فلم أر حَلقة أعظمَ من حَلْقة يُونس النحوي فجلستُ إليه فقلتُ له: إني مدحتُ المهديَّ بشعر وأردتُ ألا أرفعه حتى أعرضَه على بصرائكم وإني تَصفْحت الحَلق فلم أر حَلْقة أحفلِ من حَلْقتك فإن رأيتَ أن تَسمعه مِنّي فافْعل. فقال: يا بن أخي إنّ هاهنا خَلَفاً ولا يُمكن أحدُنا أن يَسمع شعراً حتى يحضَر فإذا حَضر فأسْمعه. فجلستُ حتى أقبل خلف الأحمر. فلمّا جلس جلستُ إليه ثم قلت له ما قلتُ ليونس. فقال: أنشد يا بن أخي. فأنشدتُه حتى أتيتُ على آخره. فقال لي: أنتَ والله كأعشى بكر بل أنت أشعرُ منه حيث يقول: رَحلتْ سُمَيّة غُدوةً أجمالهَا غَضْبَى عليك فما تقول بدَالهَا وكان خَلفٌ مع روايته وحِفظه يقول الشعر فيُحسن وينَحله الشعراء. ويقال إن الشعر المَنسوب إلى ابن أخت تأبّط شَرّاً وهو: إنَّ بالشِّعب الذي دون سَلْع لقتيلاً دَمُه ما يُطَلُّ لخلَف الأحمر وإنه نَحله إياه. وكذلك كان يفعل حمّاد الرواية يَخلط الشعر القديم بأبيات له. قال حماد: ما مِن شاعر إلا قد زِدْتُ في شعره أبياتاً فجازت عليه إلا الأعشى أعشى بكر فإني لم أزد في شعره قطُّ غيرَ بيت فأفسدتُ عليه الشعر. قيل له: وما البيتُ الذي أدخلته في شعر الأعشى فقال: وأنكرتْني وما كان الذي نَكِرتْ من الحوادث إلا الشَّيبَ والصلعَا وقال حمّاد الراوية: أرسل إليّ أبو مُسلم ليلاً فراعني ذلك فلبستُ أكفاني ومضيتُ. فلما دخلتُ عليه تركني حتى سَكن جأشي ثم قال لي: ما شِعر فيه أوتاد قلت: من قائله أصلح اللّه الأمير قال: لا أدري. قلت: فمِن شعراء الجاهلية أم مِن شُعراء الإسلام قال: لا أدري. قال: فأطرقتُ حيناً أفكر فيه حتى بدر إلى وَهمي شعر الأفوه الأوديّ حيث يقول: لا يَصلح الناسُ فوضىَ لا سراةَ لهم ولا سَراةَ إذا جُهّالهم سادُوا والبيت لا يُبتنَي إلا له عَمَد ولا عِمادَ إذا لم تُرْس أوتاد فقلت: هو قَوْل الأَفوه الأودي أصلح الله الأمير وأنشدته الأبيات. فقال: صدقتَ انصرفْ إذا شئتَ. فقمتُ فلما خطوتُ البابَ لحَقني أعوان له معهم بَدْرة فصَحِبوني إلى الباب. فلما أردتُ أن اقبضها منهم قالوا: لا بُدّ مِن إدخالها إلى موضع مَنامك. فدخلوا معي فعرضتُ أنْ أعطيهِم منها. فقالوا: لا نقدم على الأمير. الأصمعيّ قال: أقبل فِتْيان إلى أبي ضمضم بعد العشاء فقال: ما جاء بكم قالوا: جِئنا نتحدّث إليك. قال: كذبتم يا خُبثاء ولكنْ قُلتم: كَبر الشيخُ فهلم بنا عسى أن نأخذَ عليه سَقطة قال: فأَنشدهم لمائة شاعر كُلهم اسمه عمرو. وقال الأصمعي: فعددتُ أنا وخَلف الأَحمر فلم نَزد على أكثر من ثلاثين. وقال الشَّعبي: لستُ لشيء من العُلوم أقلَّ رواية مني للشعر ولو شئتُ لأنشدت شهراً ولا أعيد بيتاً. وكان الخليل بن أحمد أروى الناس للشعر ولا يقول بيتاً. وكذلك كان الأصمعي. وقيل للأصمعي: ما يمنعك من قول الشعر قال: نَظري لجيِّده. وقيل للخليل: ما لك لا تقول الشعر قال: الذي أريده لا أجده والذي أجده منه لا أريده. وقيل لآخر: ما لك تَروي الشعر ولا تقوله قال: لأني كالمسَنّ أَشحذ ولا أَقطع. وقال الحسنُ القاسم بن محمد السّلاميّ قال: حدَّثنا أحمد بن بِشْر الأطْروش قال: حدَّثني يحيىِ بن سَعيد قال: أخبرني الأصمعيِّ قال: تصرَفتْ بي الأسباب إلى باب الرشيد مؤِمِّلاً للظفر بما كان في الهِمَّة دفيناً أترقّب به طالع سَعد يكون على الدَّرك مُعيناً. فاتَصل بي ذلك إلى أن كنت للحرسِ مُؤْنساً بما استملتُ به مودتَهم. فكنتُ كالضَّيف عند أهل المبرة. فطَرقتُهمِ متوجِّهاً بإتحافي. وطاولْتني الغايات بما كِدْت أصِير به إلى مَلالة غير أنني لم أزل مُحْيِياً للأمل بمذاكرته عند اعتراض الفَترة وقلتُ في ذلك: وأيُّ فتى أعِير ثباتَ قَلْب وساع ما تَضِيق به المَعاني تجاذبه المواهبُ عن إباء ألاّ بل لا تُواتيه الأمانَي فرُبَّ مُعرَّس للناس أجلى عن الدَرك الحميد لدى الرِّهان وأيّ فتى أناف على سُموّ مِن الهمّات مُلْتهبَ الْجَنَان بغير توسُّع في الصَّدرماض على العَزمات كالعَضْب اليَماني فلم نَبْعد أنْ خرج علينا خادم في ليلةٍ نَثرت السعادةَ والتوفيق وذلك أن الرشيد تربّعِ الأرقُ بين عينيه فقال: هل بالحَضرة أحدٌ يحسن الشعر فقلت: الله أكبر رُبّ قيْد مُضيَّق قد فكّه التَيسير للإنعام. أنا صاحبُك إن كان صاحبُك مَن طلب فأدمن أو حَفِظ فأَتقن. فأَخذ بيدي ثم قال: ادخل إنْ يحتم الله لك بالِإحسان لديه والتَّصويب فلعلّها تكون ليلةً تُعوِّض صاحبها الغِنى. قلت: بَشرك الله بالخير. قال: ودخلتُ فواجهتُ الرَشيد في البهو جالساً كإنّما رُكِّبب البدرُ فوق أزراوه جمالاً والفضلُ بن يحيى إلى جانبه والشَمع يحُدق به على قضب المَنابر والخَدم فوق فَرشه وُقوف. فوقف بي الخادم حيث يَسمع تَسْليمي ثم قال: سَلِّم. فسلّمت. فردّ ثم قال: يُنَحَّى قليلاً ليسكن روعه إن وجد للرَّوْعة حساً. فقعدتُ حتى سكن جأشي قليلاً ثم أقدمتُ فقلت: يا أمير المؤمنين إضاءة كَرمك وبَهاء مجدك مُجيران لمن نَظر إليك من اعتراض أذَّية له أيسألني أمير المؤمنين فأجيب أم أبتدئ فأصيب بيُمن أمير المؤمنين وفَضْله قال: فتبسّم إليَّ الفَضلُ ثم قال: ما أحسن ما أستدعى الاختبار وأسهلّ به المُفاتحة وأجْدر به أن يكون محسناً. ثم قال الفضل: والله يا أمير المؤمنين لقد تقدم مبرزاً مُحسناً في استشهاده على براءته من الحَيْرة وأرجو أن يكون مُمْتعاً. قال: أرجو. ثم قال: ادْنُ. فدنوتُ. فقال: أشاعرٌ أم راوية قلت: رواية يا أمير المؤمنين. قال: لمن قلت: لذى جِدٍّ وهَزْل بعد أن يكون محسناً. قال: والله ما رأيتُ أوعى لعِلم ولا أخير بَمحاسنِ بيان قَتقَتْه الأذهان منك. ولئن صرتُ حامداً أثرَك لتعرفن الإفضال مُتوجِّهاً إليك سريعاً. قلت: أنا على الميْدان يا أمير المؤمنين فيُطلق أميرُ المؤمنين من عِقالي مُجيباً فيما أحبه. قال: قد أنصف القارةَ مَن راماها. ثم قال: ما معنى المثل في هذه الكلمة بَديّاً قلت: ذكرت العربُ يا أمير المؤمنين أنَ التتابعة كانت لهم رُماة لا تقع سِهامهم في غير الحَدق وكانت تكون في المَوْكب الذي يكون فيه المَلك على الجياد البُلْق بأيديهم الأسورةُ وفي أعناقهم الأطواق تُسميهم العرب القارة. فخرج من موكب الصُغد فارس مُعْلَم بعَذَبات سُود في قَلنْسوته قد وضع نُشابته في الوتر ثم صاح: أين رُماة الحرب قالوا: قد أنصف القارة مَن راماها. والملك أبو حسَّان إذ ذاك المضاف إليه. قال: أحسنت! أرويتَ للغجَّاج ورُؤبة شيئاً قلت: هما يا أمير المُؤمنين يتناشدان لك بالقَوافي وإن غابا عنك بالأشخاص. فمدَ يدَه فأخرج من تحت فراشه رُقعة ينظر فيها ثم قال: اسْمعني: ارقني طارقُ هّم طَرَقا فمضيتُ فيها مُضي الجَواد في سَنن مَيدانه تَهْدِرُ بها أشداقي حتى إذَا صَرتُ إلى امتداح بني أمية ثَنيتُ عِنان اللسان إلى امتداحه المنصورَ في قوله. قُلْت لزِيرٍ لم تَصِلْه مَرَيمه قال: أعن حَيْرة أمِ عن عَمد قلت: بل عن عمد تركتُ كذبه إلى صدقه فيما وصف به المنصور من مجده. قال الفضل: أحسنتَ بارك الله فيك مثلك يُؤمَّل لهذا الموقف. قال الرشيد: أرجع إلى أول هذا الشعر. فأخذتُ من أوله حتى صرت إلى صفة الجمل فأطلتُ. فقال الفَضل: ما لك تُضيِّق علينا كَلّ ما اتسع لنا من مساعدة السَّهر في ليلتنا هذه بذكر جَمل أَجرب صِرْ إلى امتداح المنصور حتى تأتي على آخره. فقال الرشيد: اسكت هي التي أخرجتْك من دارك وأَزعجتك من قَرارك وسلبتْك تاجِ مُلكك ثم ماتت فعملت جلودها سِياطاً يضرب بها قومُك ضربَ العبيد ثم قهقه. ثم قال: لا تَدع نفسك والتعرّضَ لما تكره. فقال الفضل: لقد عُوقبتُ على غير ذنب والحمد للّه. قال الرشيد: أخطأتَ في كلامك يرحمك اللّه لو قلتَ: وأستغفر اللّه قلتَ صواباً وإنما يُحمد الله على النعم. ثم صَرف وجهه إليّ وقال: ما أحسن ما أدَّيت في قدر ما سئلت أسمعني كلمةَ عديِّ بن الرّقاع في الوليد ابن يزيد بن عبد الملك: عَرف الدِّيار توهماً فاعتادها فقال الفضل: يا أمير المؤمنين ألبستْنا ثوبَ السهر ليلتَنا هذه لاستماع الكذب لمَ لا تأمره أن يُسمعك ما قالت الشعراء فيك وفي آبائك قال: ويحك! إنه أدب ما يُخطب أبكاره بالنّسب وقلّما يُعتاض عن مثله. ولأن أسمع الشعر ممن يَخْبره وشغلته العنايةُ به عُمرَه أحبُّ إليّ من أن تُشافهني به الرُّسوم. وللمُمتَدح بهذا الشعر حركات ترد عليها فلا تصدُر من غير انتفاع بها. ولا أكون أول مُستنّ طريقة ذِكْر لم تؤدها الرواية. قال الفضل: قد والله يا أميرَ المؤمنين شاركتُك في الشوق وأعنتُك على التّوْق. ثم التفتَ إليّ الفضلِ فقال: أحْدُ بنا ليلتك مُنشداً هذا سيدي أمير المُؤمنين قد أصغى إليك مُستمعاً فمُر وَيحك في عِنان الإنشاد فهي ليلة دهرك لن تنصرف إلا غانماً. قال الرشيد: أمّا إذا قطعتَ عليّ فأحلف لتشركنّي في الجزاء. فما كان لي في هذا شيء لم تُقاسمنيه. قال الفضل: قد والله يا أمير المؤمنين وطنت نفسي على ذلك متقدّماً فلا تَجعلنّه وعيداً. قال الرشيد: ولا أجعله وَعيداً. قال الأصمعي: الآن ألبس رداء التِّيه على العرب كلها إني أرى الخليفة والوزير وهما يَتناظران في المَواهب لي. فمررتُ في سنن الإنشاد حتى إذا بلغتُ إلى قوله: تُزْجِي أَغنَّ كأن إبرة رَوْقة قَلَم أصابَ من الدَّواة مِدادَها فاستوى جالساً ثم قال: أتحفظ في هذا شيئاً قلت: نعم يا أمير المؤمنين. قال الفرزدق: لما قال عَدي: تزجي أغنّ كأن إبرة رَوْقة قلت لجرير: أيّ شيء تراه يناسب هذا تشبِيهاً فقال جرير: قلم أصاب من الدَّواة مِدادَها فما رجع الجواب حتى قال عديّ: فقلت لجرير: ويحك! لكأن سَمعَك مَخبوء في فؤاده. فقال جرير: اسكت شغَلني سَبُّك عن جَيّد الكلام. ثم قال الرشيد: مُرَّ في إنشادك. فمضيت حتى بلغت إلى قوله: ولقد أراد الله إذ ولاكها من أُمةٍ إصلاحَها ورَشادها قال الفضل: كذب وما برّ. قال الرشيد: ماذا صَنع إذ سمع هذا البيت قلت: ذكرت الرواةُ يا أمير المؤمنين أنه قال: لا حول ولا قوة إلاّ باللّه. قال: مُرّ في إنشادك. فمضيت حتى بلغت إلى قوله: تأتيه أَسْلاب الأعِزة عَنوَةً عُصَباً وتَجمع للحُروب عَتادَها قال الرشيد: لقد وصفه بحَزم وعزم لا يَعْرِض بينهما وَكْلٌ ولا استذلال. قال: فماذا صَنع قلت: يا أمير المؤمنين ذكرت الرواة أنه قال: ما شاء اللّه. قال: أحسبك وَهمت قلت: يا أمير المؤمنين أنت أولى بالهِداية فليردّني أميرُ المؤمنين إلى الصواب. قال: إنما هذا عند قوله: ولقد أراد الله إذ ولاّكها من أُمة إصلاحَها ورشادَها ثمّ قال: والله ما قلت هذا عن سَمع ولكنني أعلم أنّ الرجل لم يمكن يُخطئ في مثل هذا. قال الأصمعيّ: وهو والله الصواب. ثم قال: مُرَّ في إنشادك. فمضيتُ حتى بلغت إلى قوله: وقال: وكان من خَبرهم ماذا قلت: ذكرت الرواة أن جريراً لمّا أنشد عدي هذا البيت قال: بلى واللّه وعشر مِئين. قال عديّ: وَقْر في سمعك أثفل من الرصاص. هذا والله يا أمير المؤمنين المَديح المُنتقى. قال الرشيد: والله إنه لنقيّ الكلام في مَدْحه وتَشبيبه. قال الفضل: يا أمير المؤمنين لا يُحسنِ عديّ أن يقول: شُمسُ العَداوة حتى يُستقاد لهم وأعظم الناس أحلاماً إذا قَدروا قال الرشيد: بلى. قد أحسن إذ يقول في الوليد: لِلْحمد فيه مذاهب ما تَنتهي ومكارم يَعْلون كُلَّ مكارم ثمّ التفت إليَّ فقال: ما حفظتُ له في هذا الشعر شيئاً حين قال: أطفأتَ نِيران الحُروب وأُوقدت نارٌ قَدَحْتَ براحتيك زِنادهَا قلت: ذكرت الرواة يا أمير المؤمنين أنه حَك يميناً بشمال مُقتدحاً بذلك ثم قال: الحمد للّه على هبة الإنعام. ثم قال الرشيد: أرويتَ لذي الرُّمة شيئاً قلت: الأكثر يا أمير المؤمنين. قال: والله إني لا أسألك سؤال امتحان وما كان هذا عليك ولكنّني أجعله سبباً للمُذاكرة فإن وَقع عن عِرْفانك شيء فلا ضيق عليك بذلك عِندي فما ذا أراد بقوله: مُمَرّ أَمرّت مَتْنَه أسديّة يَمانيّة حَلالة بالمَصانِع قلت: وصف يا أمير المؤمنين حماراً وحشِيَّاً أسمنه بَقل رَوضة تشابكت فروعه ثم تواشجت عُروقه من قَطْر سحابة كانت في نَوء الأسد ثم في الذَراع منه. قال: أصبتَ. أفترى القومَ علموا هذا من النجوم بنظرهم إذ هو شيء قَلّما يُستخرج بغير السبب الذي رُويت لهم أصوله أو أَدَّتهم إليه الأوهام والظُّنون فالله أعلم بذلك. قلت: يا أمير المؤمنين هذا كثير في كلامهم ولا أحسبه إلا عن أثر أُلْقي إليهم. قال: قلّما أجد الأشياء لا تُثيرها إلاّ الفكر في القُلوب. فإن ذهبتَ إلى أنه هِبة الله ذكّرهم بها ذهبتَ إلى ما أدَتهم إليه الأوهام. ثم قال: أرويتَ للشّماخ شيئاً قلتُ: نعم يا أمير المؤِمنين. قال: يُعجبني منه قولُه: إذا رُدَّ من ثِنْي الزِّمَام ثَنتْ له جِراناً كخُوط الخَيْزران المُمَوَّج قلت: يا أمير المؤمنين هي عَروس كلامه. قال: فأيها الحسن ألان من كلامه قلت: الرائيّة وأنشدتُه أبياتاً منها. قال: أمسك ثمّ قال: أستغفر الله ثلاثاً أَرِحْ قليلاً واجلس فقد أمتعتَ مُنشداً ووجدناك مُحسناً في أدبك مُعبراً عن سرائر حفظك. ثم التفت إلى الفضل فقال: لكَلام هؤلاء ومَن تقدّم من الشعراء دِيباجُ الكلام الخُسْرواني يَزيد على القَدِم جِدّة وحُسناً. فإذا جاءك الكلام المُزيَن بالبديع جاءك الحرير الصِّينيّ المُذهّب يَبقى على المُحادثة في أفواه الرواة. فإذا كان له رَوْنق صَوَاب وَعَته الأسماع ولَذّ في القلوب ولكن في الأقل منه. ثم قال: يُعجبني مثلُ قول مُسلم في أبيك وأخيك الذي افتتحه بمخاطبة حليلته مفتخراً عليها بطُول السّرى في اكتساب المغانم حيث قال: أجدّكِ هل تَدرين أن رُبَ ليلةٍ كأنّ دُجاها من قُرونك يُنشَر صبرتُ لها حتى تجلّت بُغرة كغُرة يحيى حين يُذكر جَعفر أفرأيت ما ألطف ما جعلهما مَعدناً لكمال الصفات ومَحاسِنها ثم التفت إليّ فقال: أجدُ ملالة ولعلِّ أبا العبّاس يكون لذلك أنشط وهو لنا ضيف في ليلتنا هذه فأقِم معه مُسامراً له ثم نَهض. فتبادر الخدم فأمسكوا بيده حتى نزل عن فَرشه ثم قُدّمت النعل فلما وضع قدمه فيها جعل الخادم يُسوّي عَقب النعل في رجْله. فقال له: ارفُق ويحك حَسْبك قد عَقرتني. قال الفضل: لله دَرُّ العَجم ما أحكم صَنعتهم لو كانت سِنْديّة ما احتجت إلى هذه الكلفة. قال: هذه نَعلي ونَعل آبائي رحمة الله عليهم وتلك نَعلك ونعل آبائك. لا تزال تُعارضني في الشيء ولا أَدعك بغير جواب يُمضّك ثم قال: يا غلام عليّ بصالح الخادم. فقالت: يُؤمر بتَعجيل ثلاثين ألفَ درهم في ليلته هذه. قال الفضل: لولا أنه مجلس أمير المؤمنين ولا يأمر فيه أحد غيره لدعوت لك بمثل ما أمر به أمير المؤمنين. فدعا له بمثل ما أمر به أمير المؤمنين إلا ألفَ درهم. وتصبح من غد فتلقى الخازن إن شاء اللّه. قال الأصمعيّ: فما صليت الظَّهر إلا وفي منزلي وقال دِعبل بّن علي الخُزاعي: يَموت رديء الشَعر من قبل أهلِه وجيّده يَبقى وإن مات قائلُه وقال أيضاً: إنّي إذا قلتُ بيتاً مات قائله ومَن يقال له والبيتُ لم يَمُتِ باب مَن استعدى عليه من الشعراء لما هَجا الحُطيئة الزِّبرقان بنَ بَدْر بالشّعر الذي يقول فيه: دَع المكارِم لا تَرْحل لبُغيتها واقعُد فإنك أنت الطاعِم الكاسي إستعدى عليه عمرَ بن الخطّاب وأنشده البيتَ. فقال: ما أرى به بأساً. قال الزِّبرقان: والله يا أمير المؤمنين ما هُجيت ببيت قطُّ أشدَّ عليّ منه. فبعث إلى حسّان بن ثابت وقال: انظُر إن كان هجاه. فقال: ما هَجاه ولكن سَلح عليه. ولم يكن عُمر يَجهل موضع الهجاء في هذا البيت ولكنه كَره أن يتعرّض لشأنه فبعث إلى شاعر مثله وأمر بالحُطيئة إلى الحَبس وقال: يا خَبيث! لأشغلّنك عن أعراض المسلمين. فكتب إليه من الحَبس يقول: ماذا تقول لأفراخ بذي مَرَخٍ زغب الحَواصل لا ماء ولا شَجَرُ ألقيت كاسبَهم في قعر مظلمة فاغفِر عَليك سلامُ الله يا عُمر أنت الإمام الذي مِن بعد صاحبه أَلقت إليك مَقاليدَ النُّهى البَشر ما آثروك بها إذ قدَّموك لها لكنْ لأنفسهم قد كانت الإثَر فأمر بإطلاقه وأخذ عليه ألا يهجو رجلاً مُسلماً. ولمِّا هجا النجاشيُ رهطَ تميم بن مُقبل استعدَوا عليه عمَر بن الخطاب رضي الله عنه وقالوا: يا أميرَ المؤمنين إنّه هجانا. قال: وما قال فيكم قالوا: قال: إذا الله عادَى أهل لُؤم ورقة فعادَى بني عَجْلان رَهْط ابنِ مُقبل قال عمر: هذا رجل دعا فإن كان مظلوماً استُجيب له وإن لم يكن مظلوماً لم يُستجب له. قالوا: فإنه قد قال بعد هذا: قبيلته لا يَخْفرون بذمَة ولا يَظلمون الناسَ حَبَّة خَرْدل قال عمر: ليت آلَ الخطاب مثل هؤلاء. قالوا: فإنه يقول بعد هذا: ولا يَردون الماءَ إلا عشية إذا صَدر الوْرَّاد عن كُل مَنْهل قال: فإن ذلك أَجَمّ لهم وأمكن. قَالوا: فإنه يقول بعد هذا: وما سمَي العَجلان إلاّ لقَولهم خُذ القَعْب واحلب أيها العَبْد واعجل قال عمر: سيِّد القوم خادمُهم فما أرى بهذا بأساً. ونظير هذا قول معاوية لأبي بُردة بن أبي مُوسى الأشعري وكان دَخل حمّاما فزحمه رجل فرفع رجلُ يده فلَطم بها أبا بُردة فأثر في وجهه. فقال فيه عُقَيبة الأسديّ: لا يَصرم الله اليمينَ التي لها بوَجهك يابنَ الأشعريّ نُدوبُ قال: فاستعدى عليه مُعاوية وقال: إنّه هَجاني. قال: وما قال فيك فأنشده البيت. قال معاوية: هذا رجل دَعا ولم يقل إلا خيراً. قال: فقد قال غير هذا. قال: وما قال فأنشده: وأنت اْمرؤٌ في الأشْعرين مُقابَل وفي البَيت والبَطحاء أنت غَريبُ قال معاوية: وإذا كنتَ مُقابَلا في قومك فما عليك ألا تكون مقابَلا في غيرهم. قال: فقد قال غير هذا. قال: وما قال قال قال: وما أنا من حُدّاث أمك بالضُّحى ولا مَن يُزكِّيها بظَهر مَغِيبِ قال: إنما قال: ما أنا من حدَاث أمك فلو قال: إنه من حُدَّاثها لكان ينبغي لك أن تغضب. والذي قال لي أشد من هذا. قال: وما قال لك يا أمير المؤمنين قال قال: مُعاويَ إننا بَشرٌ فأسجِحْ فَلسْنا بالجبال ولا الحديدِ أكلتُم أرضَنا وجَردتموها فهل من قاَئم أو من حَصِيد فَهَبْنا أُمةً هَلَكت ضَياعاً يَزيدُ أميرُها وأبو يَزيدِ أتطمع بالخُلود إذا هَلَكنا وليس لنا ولا لك مِن خُلود ذَرُواجَور الخلافة واستقِيموا وتأميرَ الأرازل والعَبيد قال: فما مَنعك يا أميرَ المًؤمنين أن تَبعثَ إليه مَن يضرب عُنقه قال: أو خَيْر من ذلك قال: استعدى قومٌ زيادا على الفَرزدق وزعموا أنه هَجاهم. فأرسل إليه وَعَرض له أن يُعطيه. فهرب منه وأنشده: دَعانِي زيادٌ للعَطاء ولم أكُن لأقْرَبه ما ساق ذو حَسَب وَفرا وعِنْد زياد لو يريد عطاءَهم رجالٌ كثيرٌ قد يَرى بهمُ فَقْرا فلمّا خَشِيتُ أن يكون عطاؤه أداهم سُودا أو مُحَدْرَجة سمرا نَهضتُ إلى عَنْس تَخوَّن نيها سُرى الليل واستعراضُها البلدَ القَفْرا يَؤم بها المَوماة مَن لا ترى له لدى ابن أبي سُفيان جاهاً ولا عُذرا ثم لحق بَسعيد بن العاص وهو والي المدينة فاستجار به وانشده شعره الذي يقول فيه: إليك فررتُ منك ومن زيادٍ ولم أحْسب دمِي لكما حَلالاً فإنْ يكُن الهِجاء أحلّ قَتْلي فقد قُلنا لشاعركم وقَالا ترى الغُر السوابق من قريش إذا مِا الأمرُ في الحَدَثان عالا قِياماً يَنْظرون إلى سعيد كأنَهمُ يَرَوْن به هلالا ولما وقع التّهاجي بين عبد الرحمن بن حسَّان وعبد الرحمن بن أم الحكَم أرسل يزيد بنُ مُعاوية فاهْج الأنصار. فقال: أرادِّي أنت إلى الإشراك بعد الإيمان لا أهجوا قوماً نصروا رسول الله صلى الله عيه وسلم ولكن أدلك على غُلامٍ منّا نصرانيّ. فدلّه على الأخطل. فأرسل إليه فهجا الأنصار وقال فيهم: ذهبت قريش بالمَكارم كُلِّها والُّلؤمُ تحت عَمائِم الأنصارِ قومٌ إذا حَضر العَصِير رأيتَهم حُمْرا عُيونُهم من المُسْطار وإذا نسبتَ ابن الفُريعة خِلْتَه كالجَحش بين حِمارة وحِمار فدعُوا المَكارم لستُمُ من أهلها وخذُوا مساحِيَكم بني النّجار وكان مع معاوية النُّعمان بن بَشير الأنصاريّ فلما بلغه الشّعر أقبل حتى دخل على معاوية ثم حَسر العِمامة عن رأسه وقال: يا معاوية هل تَرى من لؤم قال: ما أرى إلا كَرَماً. قال: فما الذي يقول فينا عبدُ الأراقم: ذهبت قُريش بالمَكارم كُلها واللؤمُ تحت عمائم الأنصار قال: قد حكّمتك فيه. قال: والله لا رضيتُ إلا بقَطع لسانه. ثم قال: مُعاوي إلا تُعطنا الحقّ تَعْترف لِحَى الأزد مَشْدودا عليها العمائمُ أيشتُمنا عبدُ الأراقم ضلّة وما ذا الذي تجدي عليك الأراقم قال معاوية: قد وهبتُك لسانَه. وبلغ الأخطلَ. فلجأ إلى يزيدَ بن معاوية. فركب يزيدُ إلى النُّعمان فاستوهبه إياه. فوَهبه له. ومن قول عبد الرحمن بن حسان في عبد الرحمن بن أُم الحكم: وأمَّا قولُك الخُلفاء منّا فهم مَنعوا وَريدَك مِن وِداجِي ولولاهم لَطِحْتَ كَحُوت بَحْر هَوَى في مُظلم الغَمرات داجِي وهم دُعْج ووُلْد أبيك زُرق كأنّ عُيونهم قِطَع الزُجاج وقال يزيد لأبيه: إنّ عبد الرحمن بن حسَّان يُشبَب بابنتك رَملة قال: وما يقول فيها قال: يقول: هِيَ بَيْضاء مثلُ لؤلؤة الغَوّ اص صِيغت من لُؤلؤ مَكنونِ قال: صدق. قال: ويقول: إذا ما نسبتها لم تَجِدْها في سَناء من المَكارم دونِ قال: صدق أيضاً. قال: ويقول: تجعل المسك واليَلَنْجو ج صِلاءً لها على الكانون قال: وصدق. قال: فإنه يقول: ثم خاصَرتها إلى القُبة الخض راء تَمشي في مَرمر مَسْنون قُبّة من مَراجل ضربوها عند بَرْد الشتاء في قَيْطون قال: ما في هذا شيء. قال: تبعث إليه من يأتيك برأسه. قال: يا بُني لو فعلت ذلك لكان أشدَّ عليك لأنه يكون سبباً للخوض في ذِكره فيُكثِّر مكثر ويزيد زائد اضرب عن هذا صفحا واطودونه كَشْحا. ومن قول عبد الله بن قيس المَعروف بالرُّقيات. يُشبِّب بعاتكة بنت يزيد بن معاوية: أعاتِك يا بنْت الخَلائف عاتكَا أنيلي فتىً أَمسى بحُبك هالِكَا تبدَّتْ وأتراب لها فقتْلنَنيِ كذلَك يَقْتلن الرجالَ كذلكا يُقلِّبن ألحاظاً لهنّ فوِاتراَ ويَحْملن من فوق النَعال السبائكا إذا غَفلت عنّا العُيون التي نرى سَلَكْن بنا حيثُ اشتهين المَسالكا وقُلْن لنا لو نَستطيع لزاركم طَبِيبان مِنّا عالمان بدائكا فهل مِن طَبيب بالعِراف لعلّه يُداوي سَقِيماً هالكاً مُتهالكا فلم يَعرض له يزيدُ للذي تقدّم من وصاية أبيه مُعاوية في رَملة. تحدَثت الرواة أن الحَجاج رأى محمدَ بن عبد الله بن نُمير الثقفي وكان يُشبّب بزَينب بنت يوسف أخت الحجّاج فارتاع مِن نظر الحجّاج إليه. فدعا به. فلما وقف بين يديه قال: وإن كنتُ بالعنقاء أو بتُخومها ظننتك إلا أنْ تَصُد تَراني فقال له: لا عليك فوالله إن قُلتَ إلا خيراً إنما قلت هذا الشعرَ: يُخبئن أطرافَ البنَان من التُقى ويَخْرُجن وسطَ الليل مُعتجراتِ ولكن اخبرني عن قولك: ولما رأت رَكْب النّميري أعرضت وكُنُ من أن يَلقينَه حَذِرات في كم كنت قال: والله إن كنتُ إلا على حِمار هَزيل معي رفيق على اتان مثله. قال: فتبسِّم الحجّاج ولم يَعرض له. والأبيات التي قالها ابنُ نمير في زَينب بنت يوسف: ولم تَر عيني مثلَ سِرْب رأيتُه خَرَجْن من التَّنْعيم مُعْتمرات مَرَرْن بفَخِّ ثم رُحن عشيةً يُلبِّين لرحمن مُؤْتجرات تَضوّع مِسْكاً بطنُ نَعمان إذ مَشَتْ به زينب في نسْوة خَفِرات ولما رأت رَكْب النُّميري أعرضتْ وكُنَّ من أن يلْقَينه حَذِرات دَعَت نِسْوةً شُمَّ بدَناً نواضِرَ لا شُعْثاً ولا غَبِرات فأدْنين لما قُمْن يَحْجُبن دونها حِجاباً مِن القَسيِّ والحِبرَات وكان الفرزدق قد عرَّض بهشام بن عبد الملك في شِعره. والبيتُ الذي عرض به فيه قولُه: يُقلِّب عينَاً لم تكن لخليفة مُشَوِّهةً حَوْلاء جما عُيوبُها فكتب هشام إلى خالد بن عبد الله القَسْريّ عامله على العراق يأمره بحَبسه فحبسه حتى دخل جَرير على هشام فقال: يا أمير المؤمنين إن كنت تُريد أن تَبْسط يدَك على بادي مُضر وحاضرها فأطْلِق لها شاعرهَا وسيّدها الفرزدق. فقال له هشام: أوَ مَا يسُرك ما أخزاه اللّه قال: ما أريد أن يُخزيه الله إلا على يديّ. فأمر بإطلاقه. أي بيت تقوله العرب أشعر قيل لأبي عمرو بن العلاء: أيّ بيت تقوله العرب أشعر قال: البيت الذي إذا سمعه سامعُه سَوّلت له نفسه أن يقول مثله ولأن يخدَش أنفه بظفر كلْبٍ أهونَ عليه من أن يقول مثلَه. وقيل للأصمعيّ: أيّ بيت تقوله العرب أشعر قال: الذي يُسابق لفظه معناه. وقيل لخليل: أي بيت تقوله العرب أشعر قال: البَيت الذي يكون في أوله دليل على قافيته. وقيل لغيره: أي بيت تقوله العرب أشعر قال: البيتُ الذي لا يَحْجبه عن القلب شيء. وأحسن من هذا كله قول زُهير: وإنّ أحسنَ بيتٍ أنت قائُله بيت يُقال إذا أَنشدتَه صَدَقا أحسن ما يجتلب به الشعر قالت الحكماء: لم يُستدع شارد الشعر بأَحسنَ من الماء الجاري والمكان الخالي والشرف العالي. وتأول بعضهم الحالي بالحاء. يريد الحالي بالنوَّار يعني الرياض وهو توجيه حسن ولقي أبو العتاهية الحسنَ بن هانئ فقال له: أنت الذي لا تقول الشعر حتى تُؤتى بالرّياحين والزهور فتوضع بين يديك قال: وكيف ينبغي للشعر أن يُقال إلا على هكذا قال: أما إني وقال عبد الملك بن مَروان لأرطاة بن سُهيّة: هل تقول الآن شعراً قال: ما أَشرب ولا أَطرب ولا أضرب فلا يقال الشعر إلا بواحدة من هذه. وقيل للحُطيئة: مَن أشعر الناس فأخرج لساناً رقيقاً كأنه لِسان حَيّة وقال: هذا إذا طَمِع. وقيل لكُثير عَزّة: لمَ تركتَ الشعر قال: ذهب الشَّباب فما أَعجب وماتت عَزّة فما أطرب ومات ابن أبي ليلى فما أرغب. يريد عبد العزيز بن مروان وقالوا: أشعر الناس النابغة إذاَ هب وزُهير إذا غضب وجَرير إذا رَغب. وقال عمرو بن هند لِعَبيد بن الأبرص ولَقيه في يوم بُؤسه: أَنْشِدني من شعرك. قال: حال الجَريض دون القَريض. وقد يَمتنع الشعر على قائله ولا يَسلس حتى يَبعثه خاطر يطربه أو صوت حَمامة. وقال الفرزدق: أنا أشعر الناس عند اليأس وقد يأتي عليّ الحِين وقَلْع ضِرْس عندي أهون من قول بيت شِعر. وقال الراجز: إنما الشِّعر بناءٌ يبتنيه المُتنونَا فإذا ما نسقوه كان غَثاً أو سمينا رُبما وأتاك حِينا ثم يستصعب حِينا واسلس ما يكون الشعر في أول الليل قبل الكَرى وأول النهار قبل الغداء وعند مفاجأة النفس واجتماع الفكر. وأقوى ما يكون الشعر عندي على قَدر قُوة أسباب الرغبة أو الرهبة. قيل للخُريمي: ما بال مدائحك لمحمد من مَنصور بن زياد أحسنُ من مَراثيك قال: كُنا حينئذ نعمل على الرجاء ونحن اليوم نَعمل على الوفاء وبينهما بَوْن بعيد. والدليل على صحة هذا المعنى وصِدْق هذا القياس أنّ كُثيرَ عزّة والكُميت ابن زيد كانا شِيعيّين غاليين في التشيع وكانت مدائحهما في بني أمية أشرفَ وأجود منها في بني هاشم وما لذلك علّة إلا قوة أسباب الطمع. وقيل لكُثير عزّة: يا أبا صخر كيف تصنع إذا عسر عليك الشعر قال: أَطوف في الرّباع المُحيلة والرِّياض المُعشبة فإن نفرت عنك القوافي وأعيت عليك المعاني فروّح قلبك وأجمّ ذهنك وارتصد لقولك فراغَ بالك وسعة ذِهنك فإنك تجد في تلك الساعة ما يَمتنع عليك يومَك الأطول وليلك الأجمع. من رفعه المدح ووضْعه الهجاء قال بلال بن جرير: سألتُ أبي جريراً فقلت له: إنك لم تَهجُ قوماً قط إلا وضعتَهم غير بني لجأ وقد يكون الشيء مدحاً فيجعله الشَعر ذمّا ويكون ذمَّا فيجعله الشعر مدحا. قال حبيب الطائي في هذا المعنى: ولولا خِلال سَنها الشِّعْر ما دَرى بُغاةُ النَّدَى من أين تُؤتى المَكارمُ تُرى حكمة ما فيه وهو فُكاهة وَيقضي بما يقضي به وهْو ظالم ألا تَرى إلى بني عبد المَدان الحارثيِّين كانوا يَفخرون بطُول أجسامهم وقديم شرفهم حتى قال فيهم حسان بن ثابت: لا بأسَ بالقَوم مِن طُول ومن غِلَظ جِسْم البِغال وأحلامُ الصَافير فقالوا له: والله يا أبا الوليد لقد تَركْتَنا ونحن نَسْتحي من ذكر أَجسامنا بعدَ أن كُنَّا نَفخر بها. فقال لهم: سأصلح منكم ما أفسدت فقال فيهم: وقد كُنا نقول إذا رَأينا لِذي جِسْم يُعدّ وذِي بَيانِ كأنك أيها المُعطَى لِساناً وجِسْماً من بني عَبد المَدان وكان بنو حنظلة بن قُريع بن عَوْف بن كعب يقال لهم: بنوِ أنف الناقة يُسَبون بهذا الاسم في الجاهلية. وسبب ذلك أن أباهم نحر جزوراَ وقسم اللحم فجاء حَنظلة وقد فرغ اللحم وبقي الرأس وكان صبيّاً فجعل يجره. فقيل له: ما هذا فقال: أنف الناقة. فلُقب به وكانوا سِيري أمامَ فإنّ الأكثرين حصىً والأكرمين إذا ما ينسبون أبَا قوم هُمُ الأنفُ والأذنابُ غيرهُمِ ومن يُسوّي بأنف النّاقة الذّنبا فعاد هذا الاسم فخراً لهم وشرفاَ فيهم. وكان بنو نمير أشرافَ قيس وذوائبهَا حتى قال جريرِ فيهم: فغُضَّ الطَّرفَ إنك من نُمير فلا كَعباً بلغتَ ولا كلابا فما بقي نُميريّ إلا طأطأ رأسه. وقال حَبيب الطَّائي: وقد كان المحلق بن حَنْتَم بن شدَّاد خاملاً لا يذكر حتى طَرقه الأعشى في فِتْية وليس عنده إلا ناقة. فأتى أمه فقال: إنّ فتية طَرقونا الليلة فإنْ رأيتِ أن تأذني في نَحر الناقة قالت: نعم يا بُني. فنَحرها واشترى لهم ببعض لحمها شراباً وشَوى لهم بعضَ لحمها. فأصبح الأعشى ومَن معه غادِين. فلم يَشْعر المحلّق حتى أتته القصيدةُ التي أولها: أَرِقتُ وما هذا السُّهاد المُؤرّقُ وما بِيَ من سُقْم وما بي مَعشَقُ وفيها يقول: لَعْمري لقد لاحتْ عيون كثيرة إلى ضَوء نار في يَفاع تَحرَّقُ رَضِيعي لَبانٍ ثَدْىَ أمّ تقَاسما بأسْحمَ داجٍ عوْضُ لا نتَفرّق ترى الجُود يَسْرِي سائلاً فوق وَجهه كما زان مَتْن الهُنْدوانيّ رَونق فلما أتته القصيدةُ جَعلت الأشراف تخطب إليه ويقول القاتل: وبات على النّار النَّدى والمُحلَّق وقوله تقاسما بأسحم داج. يقول: تحالقا على الرماد وهذا شيء تفعله الفُرس لئلا يفترقوا أبداً. والعرض: الدهر. ما يعاب من الشعر وليس بعيب قال الأصمعي: سمعتُ حمّاداً الراوية وأَنشده رجل بيتَ حَسّان: يُغْشَون حتى ما تَهِرّ كلابُهم لا يَسْألون عن السواد المُقبل فقال: ما يُعرف هذا إلا في كلاب الحَانات. وأنشده آخر قولَ الشاعر: لِمنْ مَنزل بين المَذانب والجِسْر فقال: ما يعرف هذا إلا دار الماسيديين. ومما يُعاب من الشعر وليس بعيب قولُ الفرزدق: فقال مَن جهل المَعنى ولم يعرف الخبر: ما في هذا من المدح أن يمدح رجل بلباس بُردين وركوب فرس ورْد. وإنما معناه: ما قال أبو عُبيدة: إن وفود العرب اجتمعت عند النعمان فأخرج إليهم برُدي مُحرِّق. وقاد لهم: ليقُم أعزّ العرب قَبيلةً فَليلْبِسْهما. فقال عامر بن أحيمر بن بَهدلة فائترز بأحدهما وتَردّى بالآخر. فقال له النُّعمان: بم أنت أعزُ العرب قبيلةً قال: العِزّ والعدد من العرب في مَعدّ ثم في نِزار ثم في مُضَر ثم في خِنْدف ثم في تَميم ثم في سَعد ثم في كعب ثم في عوف ثم في بَهدلة فمن أنكر هذا من العرب فَلْينافرني فسكت الناس. فقال النعمان: هذه عَشيرتك فكيف أنت كما تَزعم في نَفسك وأهل بَيتك فقال: أنا أبو عشرة وعَم عشرة وخال عشرة وأمّا أنا في نفسي فهذا شاهدي. ثم وَضع قَدمَه في الأرض وقال: مَن أزالها فله مائة من الإبل. فلَمْ يتعاطَ ذلك أحدٌ. فذهب بالبُردين. فسُمَّي: ذا البُردين وفيه يقول الفرزدق: فما تمِّ في سَعد ولا آل مالك غُلام إذا ما سِيل لم يَتبهدل لهمْ وهَب النعمانُ بُردَي مُحَرِّق بمَجْد مَعَدّ والعديد المُحصّل ومما يُعاب من الشعر وليس بعَيْب قولُ الأعشى في فرس النُّعمان وكان يُسمَى اليحموم: ويأمر لليَحموم كُلّ عشيَّة بقَت وتَعْليق فقد كاد يَسْنَقُ فقالوا ما هذا مما يُمدح به أحد من السُّوقة فضلاً عن الملوك. إنه يقوم بفوس ويأمر له بالعلف حتى كادَ يسنق. وليس هذا معناه وإنما المعنى فيه ما قال أبو عُبيدة: إن ملوك العرب بلغ من حَزمها ونَظرها في العواقب أنّ أحدهم لا يبيت إلا وفرسُه مَوقوف بسَرجه ولجامه بين يديه قريباً منه مخافة عدو يفجؤه أو حال تنقلب عليه: فكان للنعمان فرس يقال له اليَحموم يتعاهده كُلّ عشية. وهذا مما يتمادح به العرب من القيام بالخيل وارتباطها بأَفنية البيوت. ومما عابوه وليس بعَيب قولُ زُهير: قِفْ بالديار التي لم يَعْفُها القِدَم بلَى وغيَّرها الأرياح والدِّيمُ فنَفى ثم حقّق في معنى واحد. فنَقض في عجز هذا البيت ما قال في صدره لأنه زعم أنَّ الديار لم يَعْفُها القِدَم. ثم إن انتبه من مَرْقده فقال: بلى عفاها وغيْرها أيضاً الأرياح والدِّيم. وليس هذا معناه الذي ذهب إليه وإنما معناه: أنَّ الديار لم تَعْفُ في عَيْنه من طريق محبّته لها وشغفه بمن كان فيها. وقال غيرُه في هذا المعنى ما هو أبين من هذا وهو قولُه: ألا ليتَ المنازل قد بَلينا فلا يَرْمِين عن شَزْر حَزِينَا فقوله ألا ليت المنازل قد بلينا أي بَلِي ذِكْرُها ولكنَها تتجدّد على طُول البلى بتجدّد ذكرها. وقال الحسن بن هانئ في هذا المعنى فلخّصه وأوضحه وشنَّفه وقرّطه حيث يقول: تجافَى البِلَى عنهنّ حتى كأنما لَبسْنَ على الإقواء ثوبَ نَعيم وممَّا عِيب من الشّعر وليس بعَيب ما يُروى عن مَروان بن الحَكم أنه قال لخالد بن يزيدَ بن معاوية وقد أستنشده من شعره فأَنشده: فلو بقيتْ خلائفُ آل حَرْب ولم يُلْبِسْهمُ الدَّهرُ المَنونَا لأصبح ماءُ أهل الأرض عَذْباً وأصبح لحمُ دُنياهم سمينا فقال له مروان: منونا وسمينا والله إنها لقافية ما اضطرك إليها إلا العَجْز. وهذا مما لا عَجز فيه ولا عابه أحد في قوافي الشعر وما أرى العيب فيه إلا على مَن رآه عيباً لأنَ الياء والواو يتعاقبان في أشعار العرب كُلها قديمها وحديثها. وقال عبَيد بن الأبرصِ: وكُل ذي غيْبة يؤوب وغائبُ المَوت لا يؤوبً مَن يسأل الناسَ يَحْرموه وسائلُ الله لا يَخِيب ومثلُه من المُحدثين: أجارةَ بيتينا أبوك غَيُور وميسور ما يُرجى لديك عَسيرُ ومما عِيب من الشعر وليس بعيب قولُ ذي الأمة: رأيتُ الناسَ يَنْتجعون غَيْثاً فقلت لصَيْدح انتجعي بلالا ولما أنشدوا هذا الشعر بلالَ بن أبي بُردة قال: يا غلام مُرْ لصيدح بقَتٍّ من عَلف فإنها هي انتجعَتْنا. وهذا من التعنّت الذي لا إنصاف معه لأن قوله انتجعي بلالا إنما أراد نفسه. ومثله في كتاب الله تعالى: " وإنما أراد أهلَ القرية وأهل العِير. وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في بعض ما يَرتجز به من شعر: إليك تَعدو قَلِقاً وَضينُها مخالِفاً دينَ النصارى دينُها فجعل الدِّين للناقة وإنما أراد صاحبَ الناقة. ولم تزل الشعراء في مدائحها تصف النُّوق وزيارتَها لمن تمدحه ولكنّ مَن طلب تعنّتاً وَجده أو تجنّياً على الشاعر أدركه عليه كما فعل صريعُ الغواني بالحَسن بن هانئ حين لَقيه فقال له: ما يَسلم لك بيتٌ عندي من سَقَط. قال: فأيّ بيت أسْقطت فيه قال: أنشدني أيَّ بيتٍ شئتَ. فأنشدَه: ذَكر الصِّبوحَ بسُحرِة فارتاحا وأمله ديكُ الصّباح صِياحَا فقال له: قد ناقضت في قولك كيف يُمِلّه ديك الصباح صِياحاً وإنما يُبشره بالصَّبوح الذي ارتاح له. فقال له الحسن: فأنشدني أنت من قولك. فأنشده: عاصىَ العَزاءَ فراح غَير مُفَنَدِ وأقام بين عَزيمة وتجلّدِ عاصى العزاء فراح غير مُفند ثم قلت: وأقام بين عزيمة وتجلّد فجعلته رائحاً مُقيماً في مقام واحد والرائح غير المُقيم. والبيتان جميعاً مؤتلفان. ولكنَ من طلب عيباً وجده. ومما عابه ابنُ قتيبة وليس بعيب قول المُرقَش الأصغر: صحا قلبُه عنها على أنّ ذِكْرها إذا ذُكرت دارت به الأرضُ قائمَا فقال له: كيفَ يَصحو مَن كانت هذه صِفته والمعنى صحيح وإنما ذهب إلى أن حاله هذه على ما تقدّم من سوء حاله حال صَحْو عنده. ومثل هذا في الشعر كثير لأن بعض الشّر أهون من بعض. وقال النبيّ صلى الله عيه وسلم في عمّه أبي طالب: إنه أخفُّ الناس عذاباً يوم القيامة يُحذَى نعلين من نار يَغلي منها دماغُه. وهذا من العذاب الشديد وإنما صار خفيفًا عندما هو أشدّ منه فزعم المُرقّش أنه عند نفسه صاحٍ إذ تبدُل حاله أسهل مما كان فيه. وقد عاب الناسُ على الحَسن بن هانئ قَوله: واخفَت أهلَ الشّرك حتى إنّه لتخافُك النُطفُ التي لم تخلقِ فقالوا: كيف تَخافه النُطف التي لم تُخلق ومجاز هذا قَريب إذا لحظ أنّ كل من خاف شيئاً خافه بجوارحه وسَمْعه وبَصره ولحمه ودمه والنُطف داخلة في هذه الجملة فهو إذا أخاف أهل الشرك أخاف النُطف التي في أصلابها. وقال الشاعر: ألا تَرْثِي لمُكتئبٍ يُحبّك لحمُه ودمُه وقال المكفوف: أحبكمُ حبّاً على الله أجرُه تَضمّنه الأحشاءُ واللحمُ والدمُ ولقى العتّابي منصوراً النَمريّ فسأله عن حاله. فقال: إني لَمدهوش وذلك أني تركت امرأتي وقد عَسُر عليها ولادُها. فقال له العتّابي: ألا أدلّك على ما يُسهل عليها. قال: وما هو قال: اكتب عَلى رَحمها هارون. قال: وما مَعناكَ في هذا قال: ألستَ القائل فيه: إنْ أخلف القَطر لم تُخلف مواهبُه أو ضاق أمر ذَكرناه فيتسعُ فقال: أبا لخُلفاء تُعرّض وفيهم تَقع وإياهم تَعيب. فيقال: إنه دخل على هارون فأعلمه ما كان من قول العَتّابي. فكتب إلى عبد الصمد عمّه يأمره بقتله. فكتب إليه عبدُ الصمد يشفع له. فوهبه إياه. سُئل بعض علماء الشعر: من أشعر الناس قال الذي يُصوِّر الباطل في صورة الحق والحقَّ في صورة الباطل بلُطف معناه ورقّة فِطْنته فيُقَبِّح الحسنَ الذي لا أحسن منه ويُحسن القبيح الذي لا أقبح منه. فمن تحسين القبيح قولُ الحارث بن هشام يعتذر من فراره يوم بَدْر: الله أعلم ما تركتُ قِتالَهم حتى رَموا مُهري بأشقَرَ مُزْبِدِ وعلمتُ أنّي إن أقاتل واحداً أقتل ولا يَضْرر عدوّي مَشهدي فصرفتُ عنهم والأحبةُ فيهمُ طمعاً لهم بعقاب يوم مُفْسِدِ وهذا الذي سمعه صاحب الهند رُتْبيل فقال: يا معشر العرب حَسّنتم كل شيء فحَسُن حتى حَسّنتم الفرار. ومن تقبيح الحسن: قولُ بشّار العقيلي في سليمان بن عليّ وكان وصل رجلاً وأحسن إليه: يا سوأةً يُكثر الشيطانُ ما ذُكرت منها التعجبَ جاءت من سُليمانَا لا تَعجبنَّ لخَيْرِ زلّ عن يده فالكَوكبُ النَّحس يَسقي الأرضَ أحيانا وقال غيرُه في تَحسَين القَبيح: يقولون لي إنّي بَخيل بنائلي ولَلْبخلُ خيرٌ من سؤال بَخيل وحَبْس المال خيرٌ من بُغاه وضَرْبٌ في البلاد بغَيْر زادِ وإصلاحُ القليل يزيدُ فيه ولا يَبقَى الكثير مع الفَساد وقال محمود الورَاق في تحسين القبيح: يا عائبَ الفقر ألا تَزدجرْ عيبُ الغِنى أكبرُ لو تعتبرْ مِن شرَف الفَقر ومِن فَضله على الغِنى إنْ صَحّ منك النَّظر أنك تَعصي كي تَنال الغِنَى وليس تَعصي الله كي تفتقر ومن تحسين القبيح أنه قيل لجَذيمة الأبرش: ما هذا الوَضح الذي بك قال: سيفُ الله جلاه. وقال اْبن حَبْناء وكان به بَرص: لا تحسبنّ بياضاً فيَّ مَنْقصةً إنّ اللَّهاميمَ في أقرابها بَلقُ وقال محمود الورّاق يمدح الشَيب: وعائب عابَني بشَيْبي لم يَعْدُ لمّا ألم وقتَه فقلت للعائِبي بشيبي يا عائبَ الشَّيب لا بلغتَه وقال آخر: يقولون هل بعدَ الثلاثين مَلْعبُ فقلتُ وهل قبل الثلاثين مَلعبُ وقال أعرابيّ في عجوز: أبى القلبُ إلا أمّ عمرو وحُبّها عجوزاً ومَنْ يُحبِب عجوزاً يفنَّدِ كثَوْب يمانٍ قد تَقادم عهدُه ورُقْعته ماشِيتَ في العَين واليَدِ قال بَشّار العُقبليّ في سوداء: أشبهك المِسكُ وأشبهته قائمةً في لونه قاعدَه لا شَكَّ إذ لونُكما واحد أنّكما من طِينة واحده الاستعارة لم تزل الاستعارة قديمةً تُستعمل في المَنظوم والمَنثور. وأحسن ما تكون أن يُستعار المنثور من المنظوم والمَنظوم من المنثور. وهذه الاستعارة خفية لا يُؤبه بها لأنك قد نقلت الكلام من حال إلى حال. وأكثر ما يجتلبه الشعراء ويتصرف فيه البلغاء فإنما يجري فيه الآخر على سنَن الأول. وقلَّ ما يأتي لهم معنى لم يَسبق إليه أحد إما في مَنظوم وإما في مَنثور لأن الكلام بعضه من بعض ولذلك قالوا في الأمثال: ما ترك الأول للآخر شيئاً. ألا ترى أنّ كعب بن زُهير وهو في الرَّعيل الأول والصدر المتقدم قد قال ِفي شعره: ما أرانا نقول إلا مُعاراً أو مُعاداً من قولنا مَكْرورا ولكن في قولهم إن الآخِر إذا أخذ من الأول المعنى فزاد فيه ما يُحسنه ويَقرِّبه ويوضحه فهو أولى به من الأول وذلك كقول الأعشى: وكأْسٍ شربتُ على لذّة وأخرى تداويتُ منها بهَا فأخذ هذا المعنى الحسن بن هانئ فحسّنه وقَرّبه إذ قال: دعْ عنكَ لَوْمي فإنّ اللومَ إغراءُ وَداوِني بالَّتي كانتْ هي الدَّاءُ والناسُ مَن يَلْقَ خيراً قائلون له ما يَشْتَهي ولأمّ المخطئ الهَبَلُ أخذه من قول المُرقِّش: ومَن يَلق خيراً يَحمد الناسُ أمرَه ومن يَغْوَ لا يَعدَم على الغيّ لائِمَا وقال قيس بن الخَطيم: تَبدَّت لنا كالشَّمس تحت غمامةٍ بدا حاجبٌ منها وضنّت بحاجب أخذه بعضً المُحدثين فقال: فشبَّهتُها بدراً بدَا منه شِقُّه وقد سَترتْ خدا فأبدت لنا خَدا وأَذْرت على الخَدّين دمعاً كأنه تنَاثُر درّ أو نَدى واقَع الوَرْدا وأخذه آخر فقال: يا قمرا للنِّصف من شَهره أبْدَى ضِياءً لثمانٍ بَقينْ وأخذه بشّار فقال: ضنت بخدّ وجَلَت عن خَد ثم انثنت كالنَّفَس المُرْتدِّ فلم يُفسد الآخر قولَ الأول ولم يكن الأولُ أولى بالمعنى من الآخر. وقد قلنا في هذا المعنى ما هو أحسن من كل ما تقدم أو مثله وهو قولي: وأما الاستعارة إذا كانت من المنثور في المنظوم ومن المنظوم في المنثور فإنها أحسن استعارة. دخل سهلُ بن هارون على الرشيد وهو يضاحك ابنه المأمون فقال سهل: يدعو للمأمون: اللهم زِدْه من الخيرات وابسُط له من البركات حتى يكون كُل يوم من أيامه مُوفياً على أمسه مقصّراً عن غده. فقال له الرشيد: يا سهل من رَوى من الشعر أفصحه ومن الحديث أوضحه إذا رام أن يقول لم يعجزه القول قال: يا أمير المؤمنين ما أعلم أحداً سبقني إلى هذا المعنى. قال: بلي. سبقك أعشى همدان حيث يقول: رأيتك أمس خير بني مَعدّ وأنت اليوم خيرٌ منك أمس وأنت غداً تزيد الضعفَ خيراً كذاك تزيد سادةُ عبد شَمْس وقد يكون مثلُ هذا وما أشبهه عن موافقة. وقد سُئل الأصمعيّ عن الشاعريْنِ يَتّفقان في المعنى الواحد ولم يَسمع أحدُهما قول صاحبه. فقال: عُقول الرجال توافتْ على ألسنتها. اختلاف الشعراء في المعنى الواحد وقد تختلف الشعراء في الواحد وكل واحدٍ منهم مُحسن في مذهبه جارٍ في توجيهه وإن كان ألا ترى أن الشَماخ بن ضِرار يقول في ناقته: إذا بلغتني وحملتِ رَحلي عَرابةَ فاشرَقي بدَم الوَتِين وقال الحسن بن هانئ في ضِدّ هذا المعنى ما هو أحسن منه في محمد الأمَين: فإذا المطيُّ بنا بلغْن محمداً فظُهورهن على الرجال حَرامُ وقال أيضاُ: أقول لناقتي إذ أبلغتْني لقد صبحتِ مني باليَمين فلم أجعلك للغِربان نُحْلاً ولا قلتُ اشرَقي بدَم الوتين فقد عاب بعضُ الرواة قولَ الشماخ واحتجوا في ذلك بقول النبيّ صلى الله عليه وسلم للأنصارية المأسورة التي نجت على ناقة النبيّ صلى الله عليه وسلم: إِني نذرت يا رسول الله إن نجْا بي الله عليها أن أنحرها قال: بئسما جَزيتيها. ولا نذْر لأحد في مِلْك غيره. وقد قالت الشعراء فلم تزل تمدح حُسن الهيئة وطيب الرائحة وإسبال الثوب. قال الفرزدق: بنو دارم قَومي ترى حُجزاتِهم عِتاقاً حواشيها رِقاقاً نِعالهُا يَجُرون هُدَّابَ اليَماني كأَنهم سُيوفٌ جلاَ الأطباعُ عنها صِقالُها رقاقُ النّعال طَيِّبٌ حُجزاتُهم يحيَّوْن بالريحان يوم السَّباسبِ وقال طَرَفة: ثم راحوا عَبقُ المِسك بهم يُلْحِفُين الأرضَ هُدَّابَ الأزُرْ وقال كُثير عَزِّة في إسبال الذيول يمدح بعض بني أمية: أشمّ من الغادِين في كُل حُلّة يَميسون في صِبْغ من العَصْب مُتْقِن هم أزر حمر الحَواشي بُطونها بأَقدامهم في الحَضْرميّ المُلسَّن وقال فيه أيضاً: إذا حُلَل العَصْب اليَماني أجادَها أَكُفُّ أساتيذ على النَّسج دُرَّب أتاهم بها الجابي فراحوا عليهمُ تمائمُ من فَضفاضهن المُكَعب لها طُرُز تحت البَنائِق أدنيت إلى مُرهفات الحَضرمي المُعَقْرب وقال آخر: معي كُل فَضفاض القَمِيص كأنه إذا ما سرتْ فيه المُدَام فَنِيق وخالفهم فيه صريع الغواني فقال: لا يَعبق الطيب خدّيه ومَفرقَه ولا يُمَسِّح عينيه من الكُحُل كَمِيش الإزار خارجٌ نصف ساقه بَعيد عن السوات طَلاّع أنجُدِ مثل قول الحجاج: أنا ابن جَلاَ وطَلاعِ الثنايا متَى أضع العمامَة تَعرفوني وقد يُحمل معناهم في تشمير الثوب وسَحبه واختلافهم فيه على وجهين: أحدهما أن يَستحسن بعضُهم ما يَستقبح بعض. والوجه الثاني وهو أشبه أن يكون لتشمير الثوب موضع ولسحبه موضع كما قال عمرو بن معد يكرب: فيوماً تَرانا في الخزوز نجرّها ويوماً تَرانا في الحَديد عوابسَا ويوماً تَرانا في الثَريد نَدسه ويوماً ترانا نكسر الكَعك يابسا وقال أعشى بكر لعمر بن مَعد يكرب: وإذا تجيء كتيبةٌ ملمومة شهباء يجتنب الكُماة نزالَها كتب المقدَم غيرَ لابس جُنّة بالسيف تَضرب معلماً أبطالها وقال مُسلم بن الوليد في يزيدَ بن مَزيد خلافَ هذا كُله وهو: تراه في الأمن في دِرع مُضاعَفة لا يأمن الدهرَ أن يُدعى على عَجل ولما أنشده يزيدَ بن مزيد قال له: ألا قلت كما قال الأعشى وأنشده البيتين. وقال عبد الملك بن مروان لأسيلم بن الأحنف الأسديّ: ما أحسنُ شيء مُدحت به قال: قول الشاعر: أسيلم ذا كُمْ لا خَفاً بِمكانه لعين تُرجِّي أو لأذن تَسمَّعُ من النَّفر الشُّم الذين إذا اعتَزَوْا وهاب رجال حلْقَة الباب قَعْقَعوا جلا الأذفُر الأحوى من المسك فَرْقَه وطيبُ الدِّهان رأسَه فهوِ أنزع إذا النَفر السُّود اليمانون حاولوا له حَوْكَ بُرديه أدقّوا وأوْسعوا فقال عبد الملك: أحسن من هذا قول أبي قَيسِ بن الأسلت: قد حَصَّت البيضة رأسي فما أطعَم نوْماً غير تَهْجاع أَسْعى على جُلِّ بني مالكٍ كُل امرئ في شأنه ساعِي وقال بعضُهم: سألتُ المُحبين الذين تَحمّلوا تبَاريحَ هَذا الحُب في سالف الدَهرِ فقالوا شفاءُ الحُب حب يُزيله لأخرى وطُولٌ للتَمادي على الهَجر وقال الحَمدوني ما هو أحسن من هذا المعنى في ضدّه وهو قولُه: زَعموا أنّ من تشاغل بالح بّ سَلا عن حَبيبِه وأفاقا كيف أسلو بلذة عنك والل ذات يُحدثْن لي إليك اشتياقا كُلما رُمتُ سَلوةً تُذهب الحُرقةَ زادت قلبي عليكِ احتراقا وقال كُثير عزّة: أريد لأنسى ذكرَها فكأنما تَمثلُ لي ليلى بكُل سَبيل وقال بعضُ الناس: إن كان يُحبها فلماذا يُحب أن يَنسى ذكرها ألا قال كما قال مجنون بني عامر: فلا خَفِّف الرحمنُ ما بي من الهَوى ولا قَطَع الرحمنُ عن حُبها قَلْبي فما سَرَّني أنّي خَليُّ من الهَوى ولو أن لي ما بين شرَق إلى غَرب وذهب أكثرهم إلى أنّ بُعْدَ العَهد يُسلي المُحب عن حَبيبه وقالوا فيه: إذ ما شئتَ أن تَسلو حبيباً فأكثر دونه عَدَد اللّيالِي وقال العبّاس بن الأحنف: إذا كنت لا يُسليك عمن تُحبه تَناء ولا يَشفيك طُولُ تلاقِي فما أنتَ إلا مستعير حَشاشةً لمُهجة نَفس آذنتْ بِفراق وقال كُثيّر عَزة: ومثله قولُ بشّار: ومن حُبها أتمنّى أن يُلاقيَني من نحو بَلْدتها ناعٍ فيَنْعاها كيما أقول فِراقٌ لا لِقاء له وتُضمر النفس يأسا ثم تَسلاها وهذه المذاهب كلها خارجة من معناها حائرة في مجراها. وقال عبدُ الله بن جُندب: ألا يا عبادَ الله هذا أخوكُم قتيلاً فهل منكم له اليومَ واترُ خذوا بدَمي إن مِتُّ كل خَريدة مريضةِ جَفْن العَين والطَّرفُ ساهر وقال صَريع الغواني في ضد هذا: أدِيرا عليِّ الراح لا تَشربَا قبلي ولا تَطْلُبا من عند قاتلتي ذَحْلي وقول عبد الله بن جُندب أحسَن في هذا المعنى لأنه إنما أراد أن يَدُل على موضع ثأره واسم قاتله ولم يُرد الطلب بالثأر لأنه لا ثأر له. وقد قال عبدُ الله بن عبّاس ونَظر إلى رجل مُدنف عِشْقاً: هذا قتيلً الحُبّ لا عَقْل ولا قَوَد وقال الفرزدق وأراد مذهب ابن جُندب فلم تُوانه رقّة الطَّبع فخرج إلى أَجْف القول وأَقْبحه يا أخت ناجيةَ بنِ سامةَ إنني أَخشى عليكِ بَنيَّ إن طَلبوا دَمِي لن يَتْركوك وقد قتلتِ أباهمُ ولو ارتقيت إلى السماء بسلم وقال ابنُ أخت تأبط شرّاً يرثي خالَه وقتلْته هُذيل: شامِسٌ في القُرِّ حتى إذا ما ذَكَت الشِعرى فبرْد وظِل ظاعِن بالحَزم حتى إذا ما حلَّ حَلَّ الحَزمُ حيث يحلّ أخذ معنى البيت الأول أعرابيّ فسهّل معناه وحسّن ديباجته فقال: إذا نزل الشتاء فأنت شمسٌ وإن نزل المصيف فأنت ظِلُّ وأَخذ معنى البيت الثاني الحسن بن هانئ فقال في الخَصيب: فما جازه جود ولا حلّ دونه ولكنْ يصير الجُود حيثُ يصيرُ وقالوا في الخَيال فحيّوه بالسلام ورحّبوا به فمن ذلك قولُ مروان ابن أبي حَفْصة: طرقْتك زائرةً فحيِّ خيالَها وقال آخر: طَرق الخَيالُ فحيّه بسَلام وعلى هذا بُنيت أشعارهم وخالفهم جَرير فطَرد الخيال فقال: وأولُ من طَرد الخيال طرفة فقال: فقُل لخَيال الحنظلية يَنقلب إليها فإنِّي واصلٌ مَن وَصَلْ وأعجبُ مِن هذا قولُ الرّاعي الذي هجا الخَيال فقال: طافَ الخيالُ بأصحابي فقلتُ لهم أم شَذرة زارتْني أم الغُولُ لا مرحباً بابنة الأقيال إذ طَرقت كأنّ مَحْجرها بالقار مَكْحول وقد يختلف معنى الشاعر أيضاً في شعر واحد يقوله ألا ترى أن امرأ القيس قال في شعره: وإن تك قد ساءتك منّي خليفةٌ فسُلِّي ثِيابي مِن ثيابك تَنْسُل توصف نفسَه بالصبر والجَلَد والقوة على التهالك ثم أدركتْه الرقةُ والاشتياق فقال في البيت الذي بعده: أغرّك منّي أنّ حُبّك قاتِلي وأنك مهما تأمري القلبَ يَفعَل مُستدركاً قولَه في البيت الأول: فسُلي ثيابي من ثيابك تَنْسُل ولم يزلْ من تقدم من الشعراء وغيرهم مُجمعين على ذَم الغُراب والتشاؤم به وكأن اسمَه مُشتق من الغُربة فسمَّوه غراب البَيْن وزعموا أنه إذا صاح في الديار أقوتْ من أهلها. وخالفهم أبو ما فَرق الأحباب بع د الله إلا الإبلُ والناس يَلْحَون غُرا ب البَيْن لما جَهِلوا وما إذا صاح غُرا ب في الدِّيار احتملوا وما على ظَهر غُرا ب البَينْ تُطْوى الرحل وما غُراب البين إل لا ناقة أو جَمل وقال آخر في هذا المعنى وذَكَر الإبل: لهنّ الوَجى إذ كُن عَوْناً على النَوى ولا زال منها ظالعٌ وكَسِيرُ وما الشّؤم في نَعْب الغُراب ونَعْقه وما الشؤْم إلا ناقة وبَعير ومن قولنا في هذا المعنى: نعب الغراب فقلتُ أكذبُ طائرٍ إن لم يُصدِّقه رُغاء بَعير رِدُّ الجمال هو المُحقَق للنَّوى بل شَر أحلاس لهنّ وَكُور وقد يأتي من الشعر ما هو خارج عن طبقة الشعراء مُنفردٌ في غرائبه وبديع صنعته ولطيف تَشْبيهه كقول جعفر بن جِدار كاتب ابن طُولون: وطَفْلة رَخْصة المَدارِي لَيست تُحَلّى ولا تُسمى إلا بسِلْك من اللآلى يُعْجِز من يُخرج المُعمَى صُغرى وكُبرى إلى ثلاثِ مثل التّعاليل أو أتَمَّا وكم ببَم وأرض بَمّ وكَم بِرَمّ وأرْض رَمّا من طَفلة بَضَة لَعوب تلقاك بالحُسن مستتما مُنهن رَيّا وكيف رَيّا ريا إذا لاقت المَشَما لو شمها طائر بَدوٍّ لَخَرّ في التُرب أولَهَمّا تَسحب ثوبين من خَلْوق قد أفنيا زعفران قُمّا كأنما جلّيا عليها من طِيب ما باشرَا وشَما فأَلفيا زعفران قُم فانغمسا فيه واستحمِّا فهي نظير اسمها المُعلَّى يقوح لامِرْطها المُدَمَّا هيهاتَ يا أختَ آل بَمِّ غَلطت في الاسم والمُسمَّى لو كنت ممن لكنت مِمّا لكنّني قد كَبرتُ عَمّا عاتبني الدهرُ في عِذاري بأحرُف فارعويت لمّا قُوّس ما كان مستقيماً وأبيضّ ما كان مُدّلهمّا وكيف تَصبو الدُّمى إلى مَنِ كان أخاً ثم صار عَمّا بي عنكِ يا أختَ أهل بَمَ شُغْل بما قد دنا مُهِمّا فلستُ من وجهك المُفدَّى ولستُ من قَدّك المُحمّى أذهلني عنك خوفُ يوم يحيا له كل من ألمَّا ما كسَبتْه يداي وَهْنا خيراً وشرًّاً أصبت ثَما تُحشر فيه الجنان زَفًّا وتُحشر النَار فيه زَمّا تقول هذي لَطالبيها هَيتَ وهذي لهم هَلُمّا نَفسيَ أولى بأنْ أذُمّا مِن أمرها كل ما استُذمّا يا نفسُ كم تُخدعين عَمّا بلُبس داج وأكل لمّا في حُفرة ما يُحير حَرفاً قد دكّ من فوقها وطما والمُزَنَيّ الذيَ إليه نَعشو إذا دَهرُنا ادلهما أخفى فؤادي له عَزائي لكنْ زَفيري عليه نَمَا كأنما خُوِّفا فخافا أو حذَرا كاساهما فصما أقبل سَهْم من الرَّزايا فخَصَ أعلامنا وعَمَّا دَكدك منّا ذُرَا جبال شامخة في السماء شما وَحصَنا دون مَنْ عليها وزاد همًّا بنا وغما قد قَرُب الموتُ يا بنَ أما فبادر المَوت يا بن أما واعلم بأنَّ من عصاك جهلا مِن التُقى لم يُطعك هِمّا هو الهُدى والرَّدى فإمَّا أتيت آتى الردى وإما ها أنذا فَاعتبر بحالي في طَبق مُوصَد مُعَمَّى قد أسكنتني الذُّنوب بيتاً يخاله الإلف مُستحما أو ابحثي عن فُل بن فُل تَرَيْه تحت التراب رِمّا لبئس عَبْد يروح بَغْياَ مع المَساوي تراه دَوْما في غَمرة العَيش لا يُبالي أحمده الجارُ أمْ أَذَمَّا كم بين هذا وبين عبد يغدو خميصَ الحشى هضمّا يقطع آناءه صلاةً ودهره بالصلاح صوْمَا إنّ بهذا الكلام نُصحاً إن لم يوافِ القلوب صُمّا يا رب لِي ألفُ ذَنب إن تعفُ يا رب فاعفُ جَمّا فأبْرِد بعفوٍ غليلَ قَلب كأنّ فيه رسيسَ حُمَى وقال الغَزّال: لَعَمْري ما ملّكتُ مِقْوَدَي الصِّبا فأمْطوَ للذّات في السَّهل والوَعْرِ ولا أنا ممّن يُؤثِر اللهوَ قلبُه فأمسي في سُكر وأصبحِ في سكرِ ولا قارع باب اليهوديّ مَوْهناً وقد هَجع النُّوامُ من شهوة الخمر وأوْتَغه الشيطان حتى أصاره من الغَيّ في بحر أضلّ من البَحر كفانيَ من كُل الذي أعجبوا به قُلَيلة ماء تُستقى لي من النَّهر ففيها شرَابي إن عَطشتُ وكُلّ ما يريد عيالي للعَجين وللقِدْر بخُبْز وبَقل ليس لحماً وإنني عليه كثيرُ الحمد لله والشكر فيا صاحبَ اللُحمان والخَمر هل تَرى بوجهي إذا عاينتَ وجهيَ من ضر وبالله لو عمرت تِسعين حِجةً إلى مثلها ما اشتقتُ فيها إلى خَمْر ولا طربتْ نفسي إلا مِزْهر ولا تَحَنَّن قلبي نحو عُود ولا زَمْر وقد حدّثوني أن فيها مَرارة وما حاجة الإنسان في الشرب للمُرّ أخي عُد ما قاسيتَه وتقلبت عليك به الدُّنيا من الخَير والشر فهل لك في الدُنيا سِوَى الساعةِ التي تكون بها السَّراء أو حاضِر الضُّرّ فما ساق منها لا يُحس ولا يُرى وما لم يكن منها عَمِي عن الفِكْر فطوبَى لعبدٍ أخرج الله روحَه إليه من الدنيا على عَمل البِر ولكنني حُدثْت أن نُفوسَهم هنالك في جاه جليل وفي قَدْر نَجْم من الحُسن ما يجرى به فَلَك كأنه الدرّ والياقوت في النَّظم ذاك الذي حاز حُسناً لا نظير له كالبدر نوراً عَلا في مَنْزل النّعم وقد تناظَرَ واليِرْجِيسُ في شَرَفٍ وقَارَن الزَّهرةَ البَيضاء في تَوَم فذاك يُشبهه في حُسن صُورته وذا يَزيد بحظّ الشّعر والقَلم أشكو إلى الله ما ألقى لفُرقته شِكْوى مُحبّ سَقيم حافظِ الذِّمم لو كنت أشكو إلى صُمِّ الهضاب إذاً تَفطَّرتْ للذي أبديه من أَلم يا غادراً لم يزَل بالغَدر مُرتدياً أين الوفاءُ ابِنْ لي غيرَ محْتشم إن غاب جسمُك عن عَيني وعن نَظري فما يَغيب عن الأسرار والوَهم إني سأبكيك ما ناحتْ مَطوقةٌ تبْكي أَلِيفاً على فَرْع من النَّشم ما يجوز في الشعر مما لا يجوز في الكلام قال أبو حاتم: أبيح للشاعر ما لم يُبَح للمتكلم من قَصرْ الممدود ومَدّ المقصور وتَحريك الساكن وتَسكين المتحرك وصَرْف ما لا يَنصرف وحَذف الكلمة ما لم تلتبس بأُخرى كقولهم: فل من فلان وحم من حمام. وجاءت حوادث مِن مِثلها يقال لِمثلك: ويهاً فُل وقال مُسلم بن الوليد: سَل الناسَ إني سائل الله وحْدَه وصائنُ وِجهي عن فُلان وعن فُل وقال آخر: دعاء حمامات تُجاوبها حَمُ ومن المحذوف أيضاً قولُ الشاعر: لها أشاريرُ مات لَحم تتَمِّره من الثَعالِي وَوَخْز من أرَانِيها يريد من الثعالب. ومثله قول الشاعر: ولضَفادِي جمَه نَقانِقُ يريد الضفادع. ومن المحذوف قولُ كعب بن زُهير: ويلُمّها خَلّةً لو أنها صَدقت في وَعدها أو لو أنَّ النُّصح مَقْبولُ يريد ويل لأمها. ومنه قولهم: لاه أبوك يريدون: للّه أبوك. وقال الشاعر: لاه ابن عَمّك لا يخا ف المُبْديات من العَواقب ثم استمرُّوا وقالوا إنّ موعدَكم ماء بشرقيّ سَلْمى فَيْدُ أورَكَكُ قال الأصمعي: سألت بجنبات فَيد عن رَكك. فقيل: ماء هاهنا يُسمى ركّا. فعلمت أن زهيراً احتاج فضعَّف: ومنه قول القِطامىّ. وقولُ المرء يَنْفُذ بعد حِين مواضعَ ليس يَنفذُها الإبارُ ومثله قولهم: كَلكال من كلكل. ونظر هذا كثير في الشعر لمن تتَبّعه. وأما قَصرهم المَمدود فجائز في أشعارهم ومدِّ المقصور عندهم قَبيح. وقد يُستجاد في الشعر على قِبحه مثلُ قوله حسّان بن ثابت: قَفاؤُك أحسن من وجهه وأمك خيرٌ من المُنذرِ وأنشد أبو عُبيدة: يالك من تمْرٍ ومن شِيشاءِ يَنْشبَ في الحَلق وفي اللهاء فمد اللَّهى هو جمع لهاة: كما قالوا: قطاة وقطى ونواة ونوى. أما تحريك الساكن وتسكين المتحرك فمن ذلك قول لَبيد بن ربيعة: تَرّاك أمكنةٍ إذا لم أَرْضَها أو يَرْتبطْ بعضَ النفوس حِمامُها ومثله قولُ امرئ القيس: وِقال أمية بن أبي الصَّلت: تأبى فما تَطلع لهم في وقتها إلا مُعذبة وإلا تُجْلدُ ومن قولهم في تحريك الساكن: اضْرِبَ عنك الهُمومَ طارقَها ضَرْبَك بالسَّوط قَوْنَس الفَرس وأما صَرف مالا يَنصرف عندهم فكثير والقَبيح عندهم ألا يُصرف المُنصرف وقد يُستجاد في الشعر على قُبحه. قال عبِّاس بن مُرْداس: وما كانَ بَدْر ولا حابس يفوق مِرداس في المَجمع ومن قولهم في تَسكين المُتحرّك وقد استشهد به سيبويه في كتابه: عَجِب الناسُ وقالُوا شِعْرُ وضَاح اليَماني إنما شِعْريَ قَنْدٌ قد خُلِطْ بجُلجلان ولو حرك خلط اجتمع خمس حركات.
|